الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم (وحاشا مقام الخليل) يعرض زوجته سارة لامثال فرعون وأبى مالك مستغلا بها حتى يأخذاها زوجة وهى ذات بعل وينال هو بذلك جزيل العطاء ويستدرهما بما عندهما من الخير!.على أن كلام التوراة صريح في أن سارة كانت عندئذ وخاصة حينما أخذها أبى مالك عجوزا قد عمرت سبعين أو اكثر، والعادة تقضى أن المرأة تفتقد في سن العجائز نضارة شبابها ووضاءة جمالها، والملوك والجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالا الطرية حسنا.وربما وجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات ففى صحيحي البخاري ومسلم عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات.وأوضح ما ينافى هذا الحدث أن الذين اكتشفوا من النصب في خرائب بابل وعليها شريعة حمورابي تشتمل على ذكر عدة من آلهة البابليين، ويدل على كون حمورابي من الوثنيين، ولا يستقيم عليه ان يكون كاهنا للرب.اثنتين في ذات الله: قوله: {إنى سقيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبنى عليك فإن سألك فاخبريه أنك أختى فإنك اختى في الإسلام فإنى لا أعلم في الأرض مسلما غيرك وغيري، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغى لها ان تكون إلا لك فأرسل إليها فاتى بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك ان بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله ان يطلق يدى ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت اشد من القبضتين الاوليين فقال: ادعى الله ان يطلق يدى فلك الله ان لا أضرك ففعلت فاطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما اتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من ارضى واعطها هاجر.قال فأقبلت تمشى فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف وقال لها: مهيم فقالت: خيرا كف الله يد الفاجر واخدم خادما.قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بنى ماء السماء.وفي صحيح البخاري بطرق كثيرة عن انس وأبى هريرة، وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة وحذيفة، وفي مسند أحمد عن انس وابن عباس واخرجه الحاكم عن ابن مسعود والطبراني عن عبادة بن الصامت وابن أبى شيبة عن سلمان، والترمذي عن أبى هريرة، وأبو عوانة عن حذيفة عن أبى بكر حديث شفاعة النبي صلى الله عليه وآله يوم القيامة، وهو حديث طويل فيه ان اهل الموقف يأتون الأنبياء واحدا بعد واحد يسألونهم الشفاعة عند الله، وكلما اتوا نبيا وسألوه الشفاعة، ردهم إلى من بعده واعتذر بشئ من عثراته حتى ينتهوا إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله فيجيبهم إلى مسألتهم وفي الحديث: انهم يأتون إبراهيم عليه السلام يطلبون منه ان يشفع لهم عند الله فيقول لهم: لست هناكم إنى كذبت ثلاث كذبات: قوله: {انى سقيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله لامرأته (أخبريه أني أخوك).والاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما ان الأقاويل الثلاث التي وصفت فيهما أنها كذبات ليست كذبات حقيقية بل من قبيل التوريات والمعاريض البديعة كما ربما يلوح من بعض ألفاظ الحديث كالذى ورد في بعض طرقه من قول النبي صلى الله عليه وآله: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله» وكذا قوله صلى الله عليه وآله: «ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله» فما بال إبراهيم في حديث القيامة يعدها ذنوبا لنفسه ومانعة عن القيام بأمر الشفاعة ويعتذر بها عنها؟ فإنها على هذا التقدير كانت من محنه في ذات الله وحسناته في الدين لو جاز لنبى من الأنبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنك قد عرفت في ما تقدم من مباحث النبوة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن ذلك مما لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام قطعا لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم وأحاديثهم من أصلها.على أن هذا النوع من الاخبار لو جاز عده كذبا ومنعه عن الشفاعة عند الله سبحانه كان قوله عليه السلام لما رأى كوكبا والقمر والشمس: هذا ربى وهذا ربى أولى بأن يعد كذبا مانعا عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى.على أن قوله عليه السلام على ما حكاه الله تعالى بقوله: {فنظر نظرة في النجوم فقال إنى سقيم} لا يظهر بشئ من قرائن الكلام كونه كذبا غير مطابق للواقع فلعله عليه السلام كان سقيما بنوع من السقم لا يحجزه عما هم به من كسر الأصنام.وكذا قوله عليه السلام للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم: {ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم} فأجابهم وهم يعلمون أن أصنامهم من الجماد الذي لا شعور فيه ولا إرادة له: {بل فعله كبيرهم هذا} ثم أردفه بقوله: {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} لا سبيل إلى عده كذبا فإنه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لالزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه، ولذا لم يجد القوم بدا دون أن اعترفوا بذلك فقالوا: {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم اف لكم ولما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 67].ولو كان المراد أن الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى، ونحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدم في الفصل الثانى من الكلام في منزلة إبراهيم عليه السلام عند الله تعالى وموقفه العبودي مما أثنى الله عليه بأجمل الثناء وحمد مقامه أبلغ الحمد.وليت شعرى كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوز أن ينطبق مثل قوله تعالى: {واذكر الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا} [مريم 41] على رجل كذاب يستريح إلى كذب القول كلما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلا لا يراقب الله سبحانه في حق أو صدق (حاشا ساحة خليل الله عن ذلك).وأما الاخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فإنها تصدق التوراة في أصل القصة غير أنها تجل إبراهيم عليه السلام عما نسب إليه من الكذب وسائر ما لا يلائم قدس ساحته، ومن أجمع ما يتضمن قصة الخليل عليه السلام ما في الكافي عن على عن أبيه وعدة من أصحابنا عن سهل جميعا عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن إبراهيم عليه السلام كان مولده بكوثار وكان أبوه من أهلها، وكانت ام إبراهيم وام لوط عليهما السلام وسارة وورقة- وفي نسخة رقبة- اختين وهما ابنتان للاحج، وكان لاحج نبيا منذرا ولم يكن رسولا.وكان إبراهيم عليه السلام في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عزوجل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه، وأنه تزوج سارة ابنة لاحج وهى ابنة خالته وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد ملكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع- حتى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالا منه.وإن إبراهيم عليه السلام لما كسر أصنام نمروذ وأمر به نمروذ فأوثق وعمل له حيرا وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم عليه السلام في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم عليه السلام سليما مطلقا من وثاقه فأخبر نمروذ خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه السلام من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم عليه السلام عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالى فإن حقى عليكم أن تردوا على ما ذهب من عمرى في بلادكم، واختصموا إلى قاضى نمروذ فقضى على إبراهيم عليه السلام أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، وقضى على أصحاب نمروذ أن يردوا على إبراهيم عليه السلام ما ذهب من عمره في بلادهم، وأخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله وأن يخرجوه، وقال: إنه إن بقى في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم ولوطا عليهما السلام معه من بلادهم إلى الشام.فخرج إبراهيم ومعه لوط لا يفارقه وسارة، وقال لهم: إنى ذاهب إلى ربى سيهدين يعنى إلى بيت المقدس فتحمل إبراهيم بماشيته وماله وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد عليها الاغلاق غيرة منه عليها ومضى حتى خرج من سلطان نمرود، وسار إلى سلطان رجل من القبط يقال له (عزارة) فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه- فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت قال العاشر لابراهيم عليه السلام: افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه فقال له إبراهيم عليه السلام: قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطى عشرة ولا نفتحة.قال: فأبى العاشر إلا فتحه قال: وغصب إبراهيم عليه السلام: على فتحه فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم عليه السلام: هي حرمتي وابنة خالتي، فقال له العاشر فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم عليه السلام الغيرة عليها أن يراها أحد فقال له العاشر: لست ادعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك.قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم عليه السلام: إنى لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه والتابوت معه فحملوا إبراهيم عليه السلام والتابوت وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك فقال له الملك: افتح التابوت فقال له إبراهيم عليه السلام: أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معى.قال: فغصب الملك إبراهيم عليه السلام على فتحة فلما رأى سارة لم سملك حلمه سقهه أن مد يده إلسها فأعرض إبراهيم عليه السلام وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال: اللهم: إن إلهك هو الذي فعل بى هذا؟ فقال له: معم إن إلهى غيور يكره الحرام، هو الذي ما إردته من الحرام فقال له له الملك: ف ع إلك يرد على يدى فإن أجابك فلم أعرض لها فقال إبراهيم عليه السلام: إلهى رد إليه يده لكيف عن حرمتي.قال: فرد الله عزوجل إليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة منه، وقال: اللهم احبس يده ولم تصل إليها.فقال الملك لابراهيم عليه السلام: إن إلهك لغيور وإم ك لغيور فدع إلهك يرد إلى يدى فإنه إن فعل لم أعد فقال إبراهيم عليه السلام: أسأله ذالك على إنك إن عدت لم تسألني أن أسأله فقال له الملك: نعم فقال إبراهيم عليه السلام: اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه فرجعت إليه يده.فلما رأى ذلك من الغيرة ما رأى الآية في يده عظم إبراهيم عليه السلام وهاب وأكرمه واتقاه، وقال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشيء مما معك فانطلق حيث شئت ولكن لى إليك حاجة فقال إبراهيم عليه السلام: ما هي؟ فقال له: أحب أن تأذن لى أن اخدمها قبطيه ة عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما قال: فأذن إبراهيم عليه السلام فدعا بها فوهبها لسارة وهى هاجر م اسماعيل عليه السلام.فسار إبراهيم عليه السلام بجميع ما معه، وخرج الملك معه يمشى خلف أبراهيم عليه السلام إعظاما لابراهيم وهيبة له فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط ويمشى وهو خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه فإنه مسلط ولابد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة فوقف إبراهيم عليه السلام قال للملك: امض فإن إلهى أوحى إلى الساعة أن أعظمك وأهابك، وأن اقدمك أمامى وأمشى خلفك إحلالا لك فقال له الملك: أوحى إليك بهذا؟ فقال إبراهيم عليه السلام نعم فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم وأنك ترغبني في دينك.قال: وودعه الملك فسار إبراهيم عليه السلام حتى نزل بأعلى الشامات، وخلف لوطا عليه السلام في أدنى الشامات.ثم أن إبراهيم عليه السلام لما أبطأ عليا لولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا، فابتاع إبراهيم عليه السلام هاجر من سارة فوقع عليها فولدت اسماعيل عليه السلام.ومن ذلك ما ذكرته أعنى التوراة في قصة الذبح أن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل عليهما السلام مع أن قصة إسكانه بأرض تهامة وبنائه الكعبة المشرفة وتشريع عمل الحج الحاكى لما جرى عليه وعلى امه من المحنة والمشقة في ذات الله، وقد اشتمل على الطواف والسعى والتضحية كل ذلك تؤيد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق عليهما السلام.وقد وقع في إنجيل برنابا أن المسيح لام اليهود ووبخهم على قولهم بأن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل 44: فكلم الله إبراهيم قائلا: خذ ابنك بكرك إسماعيل واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة فكيف يكون إسحاق البكر وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين الفصل 44 آية 11- 12.وأما القرآن فإن آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيل عليه السلام قال تعالى بعد ما ذكر قصة كسر الأصنام وإلقائه في النار وجعلها بردا وسلاما: {فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الاخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} [الصافات: 113].والمتدبر في الآيات الكريمة لا يجد مناصا دون أن يعترف ان الذبيح هو الذي ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله: {فبشرناه بغلام حليم} وأن البشارة الاخرى التي ذكرها أخيرا بقوله: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} غير البشارة الأولى، والذى بشر به في الثانية وهو إسحاق عليه السلام غير الذي بشر به في الأولى وأردفها بذكر قصة التضحية به.وأما الروايات فالتى وردت منها من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تذكر أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، والتى رويت من طرق أهل السنة والجماعة مختلفة: فصنف يذكر إسماعيل وصنف يذكر إسحاق عليهما السلام غير أنك عرفت أن الصنف الأولى هو الذي يوافق الكتاب.
|